قبل أن نفكر في نشر هذه السلسلة من المقالات التي نشرتها الكاتبة “شامة درشول” على صفحات موقع “البهموت”، كنا من قرائها ودفعنا إعجابنا بمضمونها وأسلوب كتابتها أن نستأذن الكاتبة في إعادة نشرها على صفحات “جريدة الهدهد”. وبقدر ما أحرجتنا بتلقائيتها وموافقتها دون أدنى تردد ودون حتى سابق معرفة، توجت رسالتها المقتضبة التي حملت إلينا موافقتها بدعوة جميلة تمنت فيها أن تكون سلسلتها فاتحة خير على موقعنا الفتي، وهذا ما نتمناه أيضا.. مع شكرنا وتقديرنا
حل بالمغرب خجولا، لطيفا، مرتبكا، متفائلا. استقبلوه ب”الدار دارك”، فزاد ارتباكه، وبدأت شهيته تتفتح. اشتغل الرجل مسؤولا إداريا عن الأردن، وسفيرا في مصر، ولم يسبق أن رحب به وقالوا له إن هذا الوطن هو بيته. عاملوه كضيف ثقيل، فرضته اتفاقية السلام البارد بعد حرب 73.
قاطعته الصحافة، منع من الحديث إلى النخبة، حرم عليه التقرب من مفاتيح المجتمع المصري، الفن، والثقافة، والصحافة، والسياسة. فرضت عليه الدولة المصرية الحصار، لا تواصل إلا مع وزارة خارجيتها، وبعض من المسؤولين الأمنيين، بل حتى إنه احتج على عدم دعوة وزير الخارجية المصري له في اجتماع دعا فيه السفراء الأجانب في مصر. بعث للوزير رسالة احتجاج من منزله في القدس، فقام الوزير بنشر الرسالة في الصحافة، فزاد غضبه. أهذه هي مصر التي درس بها، وعنها، وعشقها؟ حتى انه حين حل بأرضها سفيرا خرج في فيديو يخاطب المصريين، ويتودد إليهم بالادعاء أنه يحب روح الفكاهة المصرية، وأنه عاشق لعادل إمام، ومع ذلك لم يفتحوا له قلوبهم، بل حتى حين استجمع قواه ونزل من منزله إلى الشارع متجها مع حراسه الشخصيين إلى معرض القاهرة للكتاب، اعتقد أنه سيفرض على مصر أن تستقبله بنفس الترحاب الذي تستقبل به السفراء على أرضها، لكنه فوجئ برجال الأمن يطردونه من المعرض، ويخبرونه أنهم لن يستطيعوا تأمين سلامته الجسدية من غضب المصريين، فرجع منكسرا، يجر شعور الخزي والعار والنبذ.
لكنه هنا في بلد المغرب، حيث لا يجب أن تستغرب، قابلوه بالترحاب، والابتسام، والكرم. قاموا بدعوته إلى منازلهم، أجلسوه على موائدهم، حضروا من أجله الولائم، قدموا له الهدايا، طلبوا أن يلتقطوا معه صورا تذكارية، كاد الرجل أن يفقد عقله من فرط الحب الذي قوبل به، شعر أنها فرصته في أن ينتقم من أم الدنيا على رفضها لحبه، ونبذها له.
“هنا أنا محبوب، هنا يحبونني، هكذا كان يردد دوما. في المغرب لدي معجبون. انظروا إلى التعليقات على حسابي على تويتر، لا تهتموا للتعليقات المسيئة، أولئك فقط ذباب إلكتروني مأجور، أما المغاربة الحقيقيون فهم يعشقونني، حتى حملة تطهير الأماكن التي زرتها لا تؤثر في إعجاب المغاربة بي، في كل مكان أذهب إليه يطلبون مني أن يلتقطوا صورا معي، بل إنهم يطلبون الطعام من أجلي، ويقسمون بأغلظ الأيمان ألا أدفع ثمن ما ابتلعته. لا أحد يكرمني حتى في وطني. أنا في المغرب لست منبوذا يا مصر.. أنا هنا نجم يا مصر”.
لكن مهلا…
“ما الذي حدث؟ ما الذي قلب المغاربة علي فجأة؟ لماذا هم غاضبون مني؟ لماذا يريدون مني الرحيل؟ أين ذهبت ابتسامتهم؟ أين هو ترحابهم؟ ما الذي جعلهم ينقلبون علي؟ هل اتصل بهم أحد من مصر؟ هل هو تحريض من الإسلاميين؟ أم أنهم أتباع جمال عبد الناصر؟ أم أنهم مناهضو التطبيع؟ أين هم أصدقاء إسرائيل في المغرب؟ لماذا تركوني وحيدا بعد أن كانوا ينبطحون أمامي يطلبون ودي؟ ما الذي فعلته حتى لم تعد المغرب داري؟ من قلتني؟”
مهلا…
شخص واحد يحمل أجوبة لكل أسئلتي:
“ألو؟ شامة؟ كيف حالك؟ أنا ديفيد غوفرين، أعرف أنك لا تتحدثين إلي منذ اختلفنا على تغريدتي ضد سعد الدين العثماني، لكن رجاء، أنا أتصل بك فقط لأفهم:”من قتلني؟.
أنت من صنع نجاحي، أنت من أنتج الفيديو الترويجي لي الذي خاطبت به المغاربة، أنت من ألبسني الجلباب المغربي وقلت لي أن هذا سيكون مفتاحي إلى قلوب المغاربة، أنت من جعل الفيديو يتجاوز المليون مشاهدة، أنت من جعل من كان يقاطعني من نخبة المغرب بمن فيهم النخبة اليهودية تتواصل معي، بل أنت من كان وراء تواصل القائم بالأعمال في السفارة الأمريكية ليمدح خروجي في الفيديو، ألم أخبرك أن السفراء في المغرب يشعرون بالغيرة مني؟ ألم أقل لك أنهم تواصلوا معي ليقولوا لي إنهم يشعرون بالغيرة لأنهم هنا في المغرب منذ فترة ولم يفكروا يوما في مخاطبة المغاربة مرتدين الجلباب؟ ما الذي حدث؟…
اااه تذكرت…
أنت من كنت تنبهينني دوما وتقولين ألا أثق بعبارات الترحاب هاته، وأن المغاربة يستقبلونني بكرم فقط من أجل عيون الملك. لكني أنا لم أسئ إلى الملك، أنا كنت دوما لطيفا، وودودا، ومتواضعا، أو هكذا حاولت أن أبدو، وأعتقد أني ممثل جيد، أنت كنت دوما تقولين لي أني تلميذ مجتهد، وممثل جيد، ما الذي جعلهم ينقلبون علي حتى تحولت من سفير ناجح إلى سفير يحمل وصمة عار التحرش والسرقة؟.
أرجوك شامة، أنت كنت يوما مستشارتي الخاصة، وكنت أنصت لكل كلمة تقولينها لي، أعرف أني أردت التحرر من قبضتك، أعرف أني شعرت أني أريد أن أثبت نفسي بعيدا عن ظلك، لقد كانوا يقولون لي أن لا أحد يهاجمني لأن شامة معي.. لقد تعبت من ظلك الذي رافقني حتى في غيابك… أردت أن أثبت أني أستطيع كتابة التغريدات بنفسي، وأن أتحدث إلى الصحافة بنفسي، أنت من كنت تكتبين أجوبتي للصحفيين، وتختارين مع من أتحدث، ومع من لا أتحدث، بل حتى كنت تختارين لون ربطة العنق.. أردت أن أتحرر من ربطتك، وأن أطير حرا بعيدا عنك، ونجحت، وطرت شهورا بدونك، شعرت بالقوة، بالانتصار، بالثقة، تذكرين يوم قلت لك أني أخاف منك، لم أعد أخاف منك، هناك الكثير من الصحفيين، والصحفيات، الذين يخطبون ودي، ويتوسلون كلمة مني، أستطيع العيش بدونك، وقد عشت شهورا بدونك، وكنت سعيدا مثلما شعرت بالسعادة والمغرب يستقبلني في الوقت الذي نبذتني مصر…
لكني فجأة وجدت نفسي أسقط أرضا، صحيح أني عدت، لكني عدت بعد تسعة شهور من التغيب، عدت منكسرا، خائفا، أبحث عن ديفيد غوفرين الذي صنعه المغاربة، رفعوه عاليا، ثم أسقطوه أرضا…
أنا أريد أن أعرف ما الذي جعلهم ينقلبون علي؟
لم يظل لي سوى أيام معدودة في المغرب، وسأغادره بسجل حافل من الخيبات، سأظل السفير الذي صدق المغاربة، فشعر أن بإمكانه أن يحكم المغرب، وذات صباح وجد نفسه منبوذا، مطرودا، وحين أعيد إلى المغرب، اكتشف أن الدولة المغربية استغلت كل أخطائه التي ارتكبها على أرضها ليساوم إسرائيل، ويفرض عليها شروطه، ويحصل على ما يريده، بدون أن تحصل إسرائيل وطني على شيء، وأنا السبب، أنا السبب في أن المغرب حصل على اعتراف إسرائيل بمغربية الصحراء وبدون شروط، أنا السبب في أن المغرب حصل على الاعتراف وقطع على بلدي إسرائيل كل محاولة للمساومة، وكسب المزيد من الامتيازات، أنا السبب في كل هذا.
سأغادر وأنا أحمل الأجوبة لكل الأسئلة، إلا سؤالا واحدا، أنت وحدك فقط من تملكين الرد علي… أرجوك، أريد أن أعرف…
من قتلني؟
حسنا ديفيد… تريد أن تعرف؟ سأخبرك… لكن عليك أن تعرف أن عملية قتلك بدأت قبل أن تطأ قدماك أرض المغرب، وتذكر جملة كنت دوما أقولها لك وتستخف بها، كنت أقول لك: ”أكثر ما يعجبني فيك يا ديفيد أنك لا تعرف من هاته التي تجلس معك”.
فلتنصت الآن لما سأخبرك به، لنفسك، وللتاريخ…
يتبع…
شامة درشول: مديرة MCA للتحليل والتخطيط الاستيراتيجي، باحثة في الإعلام القوة الناعمة والخدمات العسكرية غير المسلحة، خبيرة في الشؤون الإسرائيلية، محاضرة دولية في قضايا الإعلام، ضيفة على قنوات دولية لتحليل الخطاب الإعلامي والسياسي في المنطقة العربية.