قبل أن نفكر في نشر هذه السلسلة من المقالات التي نشرتها الكاتبة “شامة درشول” على صفحات موقع “البهموت”، كنا من قرائها ودفعنا إعجابنا بمضمونها وأسلوب كتابتها أن نستأذن الكاتبة في إعادة نشرها على صفحات “جريدة الهدهد”. وبقدر ما أحرجتنا بتلقائيتها وموافقتها دون أدنى تردد ودون حتى سابق معرفة، توجت رسالتها المقتضبة التي حملت إلينا موافقتها بدعوة جميلة تمنت فيها أن تكون سلسلتها فاتحة خير على موقعنا الفتي، وهذا ما نتمناه أيضا.. مع شكرنا وتقديرنا
اليوم العاشر من ديسمبر لسنة 2020.. أجلس في المقعد الأمامي لسيارتي.. سائقي الشخصي يقلني إلى المنزل.. ذهني شارد.. لا أتذكر كم الساعة كانت وقتها.. ربما الخامسة مساء.. انعطف السائق يسارا.. يتلقى هاتفي إشعارات على تطبيق واتساب.. كانت رسائل كثيرة.. يبدو أن هناك حدثا ما.. ليس في العادة أن أتوصل بهذا الكم الهائل من الرسائل دفعة واحدة.. فتحت الرسالة الأولى.. وقعت عيني على الخبر الذي جعل ملف الصحراء يتخذ منعطفا جديدا.
إدارة ترامب تعترف بمغربية الصحراء، أمريكا التي كان المغرب أول من اعترف باستقلالها، ترد الفضل بعد عقود طويلة، لكن هذه المرة لها طلب “إعادة فتح مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط”…
لازلت أتوصل برسائل… فتحت إحداها… ”شامة… لقد تحققت نبوءتك.. المغرب يطبع مع إسرائيل”.
في أكتوبر 2020، كتبت منشورا على حسابي على فيسبوك قلت فيه إن المغرب سيقوم بالتطبيع الرسمي مع إسرائيل، وكتبت أن عليه أن يتفادى التطبيع من بوابة اتفاقية أبراهام، لأن لدينا مؤسسة إمارة المؤمنين تغنينا عن اتفاقية غريبة مثل اتفاقية أبراهام.. كتبت أيضا أن التطبيع عليه أن يتم في عهد حكومة العدالة والتنمية لأن حدوث التطبيع خارج حكومة الإسلاميين محكوم عليه بالفشل، وأضفت أن التطبيع المغربي مع إسرائيل عليه أن يكون مغربيا خالصا، ويبتعد عن التطبيع الإماراتي الذي يوصف بالتطبيع الدافئ والذي تهافتت فيه أبوظبي على تل أبيب كالمريد حين يتهافت على شيخه.
وصلت إلى المنزل.. الهاتف يرن.. جاكي على الخط…
شامة: جاكي، كيف حالك؟
جاكي: خبيبتي، كيف حالك؟
ديفيد: حبيبتي؟ كيف يناديك حبيبتي بدون أن تغضبي منه؟ أنا كنت أناديك حبيبتي وتغضبين.. لماذا هو؟
شامة: هو يناديني خبيبتي وليس حبيبتي.. ولا أغضب منه لأنه ببساطة ليس شخصا متحرشا…
ينظر إلي بعينين مذهولتين، وشفتين شاحبتين، يؤمن أنه بريء وليس متحرشا، يسمي تحرشه بأنه “مجرد ضعف تجاه النساء”، يجهل أنه يعيش حالة إنكار، تلك الحالة التي تصيب المهووسين بالجنس، يحملون قناع الطيبة، واللطف، ويسقط هذا القناع فور إغلاق الباب عليه وعلى امرأة رفقته، فجأة يصبح شخصا آخر لا يمكن وصفه إلا ب”وحش بشري”. لذلك لم أشعر بالشفقة وهو ينظر إلي نظرة يحاول فيها أن يبدو ضحية، وبريئا من اتهامات التحرش، كل ما عليه فعله أن يتخلص من حالة الإنكار تلك، ويتجه إلى أقرب طبيب ليعالج نفسه من الوحش الذي يسكنه، هذا إن أراد يوما أن يخرج حيا من الجثة التي يقيم فيها.
أما جاكي، فهو رجل لا يعرف التحرش طريقه إليه… اعتاد أن يناديني “خبيبتي”.. منذ التقيت به في نوفمبر 2016 بتل أبيب..
في مطعم يعود ليهودي يمني، كان وفد الصحفيين الذي أحضرته في زيارة إلى إسرائيل يتناول عشاءه ضاحكا، إلا أنا، كنت في مزاج سيء، سربت وزارة الخارجية الإسرائيلية اسمي إلى صحافة بلدها، والتقطته حركة حماس، ونشرت تغريدة تحتج فيها على المغرب على عدم منعه لوفد الصحفيين هذا من زيارة إسرائيل. كنا أول وفد صحفي يطأ أرض إسرائيل بدعوة من وزارة الخارجية الإسرائيليةـ اشترطت على الوزارة عدم نشر أسمائنا، وصورنا، لكن حسن كعبية المسؤول عن إعلام وزارة الخارجية الإسرائيلية، والإسرائيلي البدوي المسلم، وعدني ولم يف بوعده. لماذا يقولون إن اليهود فقط من يعدون ولا يفون؟
التقط الصحفيون المغاربة اسمي وشنوا علي هجوما لن أنساه.. لن أنساه لأن أغلب المهاجمين كانوا من صحفيين جمعتني بهم علاقة جيدة، أو هكذا اعتقدت.. كثيرون منهم قدمت لهم خدمات شتى… كنت وقتها أشرف على تدريب الصحفيين، ولدي علاقات جيدة بعدد من منظمات التدريب في الإعلام الدولية، كانت هذه المنظمات تطرد من مصر والأردن، منذ اندلاع ما عرف بانتفاضات الربيع العربي، كنت أتواصل مع مدرائها لأقنعهم بأن يأتوا إلى المغرب، كان هدفي هو تمكين الصحفيين في المغرب من برامج التدريب في الإعلام التي يحصل عليها أهل المشرق بسهولة بسبب ارتباطهم بالثقافة الإنجليزية، وعلاقتهم بأمريكا، وبريطانيا. كان الصحفيون يتوددون إلي للحصول على فرصة للتدريب داخل أو خارج المغرب، وحين سرب اسمي إلى الصحافة، تحولت فجأة من صديقة إلى مجرد خبر يكسبون من خلالها القراءات واللايكات…
دخل جاكي إلى المطعم، بدا رجلا متوسط القامة، في منتصف الأربعينات، ملامحه عربية، شعره أسود ناعم، أبيض البشرة، عينان عسليتان، بدا وسيما، وأنيقا، ومختلفا عن الشخصيات التي التقينا بها خلال مقامنا بين القدس وتل أبيب. كانت ملامحهم أوروبية، وكان أغلبهم من اليهود الأشكناز، يهود أوروبا، لكن جاكي شعرت به مألوفا، سمعته يتحدث العربية، صحيح أنها عربية متكسرة، لكنها عربية. قدم نفسه أنه إسرائيلي يهودي من أصل عراقي، كان يتحدث إلى الجميع، وكنت شاردة، ومستاءة، وغاضبة.
أنت شاما؟ لقد سمعت عنك كثيرا…
وجه جاكي إلي الحديث… كان يجلس قبالتي، يضع ذراعه فوق المائدة الخشبية التي وضع عليها النادل كل أصناف الأطباق الشامية.. حمص.. بابا غنوج.. كبة.. عصير ليمون بالنعناع.. ورق عنب… ورغم عشقي للمطبخ الشامي إلا أني ليلتها لم أقرب أي شيء…
أجبته بنبرة متعالية: نعم، أنا هي.. وصمت..
وربما صمتي زاد فضول جاكي ليعرف عني المزيد… سألني مرة أخرى: ”أخبروني انك رئيسة الوفد..”
أجبته مرة أخرى باقتضاب: ”نعم.. أنا هي”.
ويبدو أن جاكي أيضا شخص صبور.. سألني مرة أخرى:”سمعت أنك تتعرضين لهجوم شنيع بسبب تواجدك هنا…”
هذه المرة أجبته بإشارة من عيني، لم أقو على الكلام، كنت غاضبة بشدة، فوجدها حسن كعبيه فرصته ليحتمي بجاكي، ويحاول تبديد غضبي منه، فقال لي: ”هذا جاكي خوجي.. محلل الشؤون العربية في إذاعة الجيش الإسرائيلي”.
قفزت لحظتها من مكاني وأنا أقول: ”لاااااا صافي انت لي بقتي لي فلحساب.. بقى لي غير الجيش حتى هو..”.
ابتسم جاكي ورد بصوت هادئ: ”خبيبتي اهدئي.. أنا لست أشتغل في الجيش.. إذاعة الجيش هي تراقب الجيش وتراقب الحكومة، نحن إذاعة علمانية، همنا المحافظة على الديمقراطية.. نحن أكثر من ينتقد نتنياهو، وهو يريد إقفال الإذاعة بأي شكل لأننا ننزعجه.. أنا لدي علاقات جيدة بمحمود عباس، وبعدد من الفلسطينيين، وأيضا بكثير من المصريين.. نحن الصوت الإسرائيلي الذي يدعو إلى حل الدولتين ونؤمن أنه الحل الأسلم لكلينا”.
منذ ذلك الوقت أصبحت وجاكي صديقين.. لكن في أبريل 2020 سيحدث ما سيجعل جاكي يثق بي ثقة كبيرة، لكن دعني أولا يا ديفيد أعود إلى اتصال جاكي بي مساء العاشر من ديسمبر لسنة 2020.
ديفيد: آه.. تقصدين نعم، حين ناداك حبيبتي ولم تغضبي منه…
نعم هو ذاك..
اتصل بي جاكي ليلتها، وسألني:
شامة؟ ما رأيك فيما حدث؟ هذه خطوة مهمة لبلدينا أليس كذلك؟
نعم، لكني أنا قلقة من أمر..
تفضلي.. احكي..
هل لديك فكرة عن السفير الذي ستبعثونه؟
لا، ليس بعد، لكني سأعرف، ما أعرفه الآن أنهم سيرسلون مبعوثا مؤقتا لإدارة المكتب إلى حين رفع التمثيلية الدبلوماسية إلى مستوى سفارة بين البلدين وبعدها سيتم تعيين سفير..
إلى ذاك الوقت، أنا لدي تخوف من أن يتم إرسال دبلوماسي مغربي
لماذا أنت متخوفة؟ أليس هذا جيدا؟
لا… ليس جيدا… لا يجب نهائيا إرسال دبلوماسي إسرائيلي من أصول مغربية..
يصمت قليلا وكأنه يفكر، ثم يقول:
ممكن تحكيلي ليش انتي ما بدك واحد مغربي؟
اسمع يا جاكي.. بعث دبلوماسي إسرائيلي من أصل مغربي يعني هذا أن المغرب سيطبع مع اليهود المغاربة في إسرائيل، وليس مع إسرائيل، هذا ليس في صالح بلدي، سيظل المغرب محصورا في نوستالجيا اليهود المغاربة، ومحمد الخامس، وتاريخ الثلاثة آلاف سنة من تواجد اليهود بيننا، قبل أن يغادرونا إلى أرض الميعاد، وكندا، وفرنسا، وأمريكا، الإسرائيليون المغاربة سوف يتاجرون بالعلاقات المغربية الإسرائيلية لمصلحتهم الخاصة، والمغرب عليه ألا يقع في هذا الفخ، لأنه هذه المرة الإعلان الثلاثي مرتبط بملف جد حساس للمغاربة دولة وشعبا وهو ملف الصحراء، بمعنى أنه لا يجب أن نسمح نهائيا للمتاجرة فيه على المستوى الإسرائيلي، وابتعاث إسرائيلي مغربي معناه أن المغرب سيظل حبيس النظرة العاطفية لليهود، ولن يكون حذرا، لذلك على المغرب بما أنه اختار التطبيع مع إسرائيل، عليه التطبيع مع إسرائيل بمختلف أجناسها، وإثنياتها، وأطيافها، وهو ما سيساعد في تأسيس علاقة واقعية وعقلانية بين البلدين مبنية على الزمن الحاضر، وليس على النوستالجيا.
فهمت… وأتفق معك.. يعني سفير إسرائيلي من أي أصول إلا الأصل المغربي، يعني حتى لو كان إسرائيليا عربيا؟
لا.. يجب أن يكون من أصول إشكنازية أوروبية..
إشكنازي؟ لماذا؟
إشكنازي لأنهم هم من أسسوا لإسرائيل، وأريد بلدي المغرب أن يعرف إسرائيل الحقيقية كما أسسها اللاجئون الهاربون من أوروبا، وليس المهاجرون من يهود المشرق والمغرب الذين اختاروا الهجرة إلى إسرائيل.. على المغرب أن يكتشف إسرائيل على حقيقتها، وحقيقتها بيد اليهود الإشكناز المؤسسين فقط.
نعم.. فهمتك.. وأنا متفق معك تماما..
يصمت جاكي قليلا ثم يقول:
اسمعي.. أقترح عليك أمرا.. أكتبي مقالا في هذا الصدد.. قولي فيه أن على إسرائيل ألا ترسل مبعوثا من أصل مغربي، ولماذا عليها أن ترسل مبعوثا من أصول إشكنازية.. وأنا من جهتي سوف أنحو نفس المنحى على إذاعة الجيش، وأيضا على عمودي في صحيفة معاريف.. اتفقنا؟
اتفقنا…
ديفيد: آاااه.. فهمت الآن… لهذا تم اختياري.. يعني تقصدين أن ليلة مقتلي بدأت في العاشر من ديسمبر 2020.
ربما.. لا أعرف.. لكن هذا ما أعرفه.. أن اختيارك أنت كمبعوث دبلوماسي من أصول أوروبية إشكنازية، ولا أصول لك عربية ولا مغربية، لم يكن بالصدفة… لم يكن نهائيا صدفة…
يتبع..