حين اشتكيت من “قلة الشي”

0

كل صباح من ذلك الخريف الجميل، المتقلب المزاج والطقس، أرتدي الملابس المناسبة لأجواء السماء دون تكلف ولا أناقة زائدة، ملابس تليق بطالب حصل للتو على إجازته في الحقوق فاختار مضطرا، لأسباب مادية محضة، أن يلتحق بالمحكمة الابتدائية في وزان مدمجا في إطار الخدمة المدنية، عوض أن ينتظر معطلا، سنة كاملة، لينخرط فيما بعد ، كما كان يحلم، بهيأة المحامين التابعة وقتها إلى مدينة القتيطرة.

أنزل من بيتنا في الرويضة وأعبر إلى حي العدير حيث توجد المحكمة الابتدائية، التي تم إلحاقي فيها بالنيابة العامة، من جهات مختلفة بحسب الوقت وأحوال الطقس. مرة أمشي عبر حي بني مرين ومرة عبر حي الحدادين وتارة أخرى أنزل عبر السويقة فحي الجموعة، فساحة الاستقلال، فالكوميسارية ، فالبلدية ، إلى أن أصل المحكمة قرب حديقة للا أمينة بالعدير. كان دائما يستهويني المشي ولم أشعر يوما أني في حاجة إلى وسيلة نقل. لكن أحيانا كان بعض رجال الضابطة القضائية، الذين يعرفون بأني أشتغل في النيابة العامة، يردفونني معهم، مشكورين، في تلك السطافيط كما لو كنت أحد المبحوثين عنهم.

في ذلك الشهر الأول، أوجدوا لي مكتبا يتوسط قاعة صغيرة بها ثلاثة موظفين آخرين، بعد أن أزاحوا منه موظفا بسلم صغير. آلمني أن أرى على وجهه كآبة تدمر سوداء وتجهما مبررا وهو يجمع حوائجه. لكن يشفع لي، أنه لم تكن لي يد في طرده بتلك الطريقة المهينة، ليظل يشتغل واقفا يتنقل بين المكاتب كشاوش.

مضى حوالي شهر، على ذلك الروتين، ألتحق بالمحكمة في الثامنة والنصف صباحا وأخرج على الثانية عشرة ظهرا، لأعود بعد الغذاء على الساعة الثانية والنصف زوالا ولا أغادر الا على الساعة السادسة والنصف مساء ، دون أن أفعل أي شيء. لم أستقبل شكاية ولا حررت محضرا ولا أنجزت تقريرا ولا فتحت ملفا، كل ما كنت أفعله أنني أطلب قهوة نص نص وأجلس أقرأ شيئا ما أو أتأمل فواجع المتقاضين ومصائبهم وأتابع كمخبر حركات سماسرة المكان وزواره.

ذات صباح دون أن أخبر أحدا، قصدت مكتب السيد وكيل الملك وطلبت من الكاتبة أن تخبره بأني أريد مقابلته.

“صباح الخير أستاذ…” هكذا خاطبته لما أدخلتني الكاتبة وأغلقت الباب من دوني. أذكر أن مكتب الوكيل ، لأسباب أشغال جارية من أجل إصلاح وتوسعة المحكمة، كان ضيقا جدا، ينسدل على نافدته الوحيدة من جهة حديقة صغيرة هناك، رواق سميك بلون أحمر قاني، خلفه صورة كبيرة للملك الحسن الثاني وأمامه على المكتب رصت ملفات كثيرة.

” كاينشي ما نقضيو السي أحمد…” هكذا خاطبتي.

” أستاذ، جئتك لتجد لي حلا…فأنا لا يمكن أن أستمر في هذه الخدمة، لا أفعل شيئا…آتي كل يوم لأقضي أربع ساعات صباحا، وأربع مثلها في المساء دون أفعل شيئا…ثم إنني لا أطيق دخان السجائر …” هكذا خاطبته على سجيتي ، بوضوح ودون لباقة كبيرة.

” أنت تعرف السي أحمد، أن المحكمة تعرف إصلاحات…وجميعنا في وضع غير مريح…أنا ليس عندي مانع أن تتغيب.. ” هذا ما قاله في أول الأمر، لكنه قام من مكانه ودعاني أن ارافقه. رأيت الكاتبة ونحن نمر بها، تنظر ناحيتي مستفهمة وقلقة وكأن نظراتها تسألني” شنو وقع أحمد؟ ياك لاباس…” في بادئ الأمر قصد الوكيل وهو يتقدمني بخطوة، كتابة الضبط حيث من المفروض أقوم بمهمة ما. الكل نفض يده مما علق بها ووقف مرتعبا، فتوجه الي أمام الجميع:” أين هو مكتبك؟” فأشرت بسبابتي إلى المكتب المقابل للباب، خلفه نافدة مشرعة على طريق شبه خال كثيف الأشجار. ” مكتبك جميل…احسن من ديالي” علق.

“أستاذ أنا لم أشتك المكتب، بل وضعيتي. فأنا هنا منذشهر، لا أفعل أي شيئ. فقط أدخن مع الآخرين بالتبعية، وهذا متعب.” كان هذا مجمل ما تفوهت به.

فقبضني من يدي، وجرني كمتهم يعيد تمثيل جريمة.كان الوكيل متوسط القامة يميل إلى النحافة، لكنه بكاريزما رجل سلطة نافذ. تقدم من مكتب القضاة، ولوى مقبض الباب ودفعه بصرامة نحو الداخل دون طرقه، فرأيت ثلاثة قضاة من نوابه، يتحركون مذعورين وعيونهم زائغة، كما لو كان الباب فتح على صبية يستمنون. “ها القضاة سولهم…واش ما كنجيش نحرر ، بعض المرة عندهم … ” هكذا خاطبني دون أن يسلم على القضاة… فرأيتهم يطأطئون رؤوسهم مؤكدين. ثم أغلق الباب وأمر الشاوش الذي لم يكن بعيدا عنا. بل كان جد متحفز للامتثال لأي أمر” شوف لي رئيس كتابة الضبط.” لحظة، فرأيت هذا الأخير يتقدم من الوكيل كما يتقدم عسكري عاد من جنرال.” نعم أسيدي ” . ليخاطبه الوكيل قائلا:” قالك السي أحمد… البيرو اللي عطيتيه ما عجبوش…” ثم أردف متسائلا:’ ماكاينش شي مكتب آخر خاوي…” رأيت رئيس كتابة الضبط يدور عينيه في رأسه ثم رد صاغرا :” مع الأشغال نعماس…” ثم دون أن يكمل جملته أضاف :” كاين نعماس واحد الكوزينة فيها الأرشيف…يلا بغاها نخويوها ليه نعاس. ” التفت نحوي الوكيل :” تشوفها؟” ” ماشي مشكل…” أجبته.

لم يكن ذلك المطبخ، كبيرا، لكنه راق لي كثيرا، حين تم إفراغه من رزم الملفاة المحفوظة هناك وتأثيته بمكتب وكرسي . وذلك أولا ، لأنه بعيد عن ردهة المحكمة وضجيج ودخان الموظفين والمتقاضين . وثانيا لأنني كنت فيها لوحدي وبنافدة مفتوحة على شارع جميل بأشجال كثيفة وخضرة نضرة على الدوام.
ذات خميس، زارني الوكيل على حين غرة، فوجدني أقرأ كتابا جديدا للأستاذ عبد الكريم غلاب الله يرحمه” التطور النيابي والدستوري في المغرب” كان وقتها حديث الصدور، وعلى يميني كأس قهوة نص نص كما هي عادتي، فسألني إن كنت مرتاحا في مقري الجديد ثم ناقشني قليلا في الكتاب، ثم طلب مني أن ألتحق بمكتبه ابتداء من بداية الأسبوع القادم، لأشغل بعض المهام الشاغرة بكتابته الخاصة. وتلك حكاية أخرى.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد